الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (45- 50): {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)}ولما نبه سبحانه على التفكر، وكان داعياً للعاقل إلى تجويز الممكن والبعد من الخطر، سبب عنه إنكار الأمن من ذلك فقال تعالى: {أفأمن} أي أتفكروا فتابوا، أو استمروا على عتوهم؟ أفأمن {الذين مكروا} بالاحتيال في قتل الأنبياء وإطفاء نور الله الذي أرسلهم به، المكرات {السيئات أن} يجازوا من جنس عملهم بأن {يخسف الله} أي المحيط بكل شيء {بهم} أي خاصة {الأرض} فإذا هم في بطنها، لا يقدرون على نوع تقلب بمدافعة ولا غيرها، كما فعل بقارون وأصحابه وبقوم لوط عليه السلام من قبلهم {أو يأتيهم العذاب} على غير تلك الحال {من حيث لا يشعرون} به في حالة من هاتين الحالتين شعوراً ما، هم في حال سكون ودعة بنوم أو غفلة {أو يأخذهم} أي الله بعذابه {في} حال {تقلبهم} وتصرفهم ومشاعرهم حاضرة وقواهم مستجمعة.ولما كانت هذه الأحوال الثلاثة مفروضة في حال أمنهم من العذاب وكان الأمن من العدو يكون عن ظن عدم قدرته عليه، علل ذلك بقوله تعالى: {فما هم بمعجزين} أي في حالة من هذه الأحوال، سواء علينا غفلتهم ويقظتهم، ولم يعلل ما بعده بذلك لأن المتخوف مجوّز للعجز، فقال تعالى: {أو يأخذهم} أي الله أخذ غضب {على تخوف} منهم من العذاب وتحفظ من أن يقع بهم ما وقع بمن قبلهم من عذاب الاستئصال، ويجوز أن يراد بما مضى عذاب الاستئصال، وبهذا الأخذ شيئاً فشيئاً، فإن التخوف التنقص عند هذيل، روي أن عمر رضي الله عنه سأل الناس عنها فسكتوا فأجابه شيخ من هذيل بأنه التنقص، فقال عمر رضي الله عنه: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم! قال شاعرنا أبو كثير الهذلي يصف ناقة:فقال عمر رضي الله عنه: أيها الناس! عليكم بديوانكم لا يضل، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم.ولما كان التقدير: لم يأمنوا ذلك في نفس الأمر، ولكن جهلهم بالله- لطول أناته وحلمه- غرهم سبب عنه قوله التفاتاً إلى الخطاب استعطافاً: {فإن ربكم} أي المحسن إليكم بإهلاك من يريد وإبقاء من يريد {لرءوف} أي بليغ الرحمة لمن يتوسل إليه بنوع وسيلة، وكذا لمن قاطعه أتم مقاطعة، وإليه أشار بقوله تعالى: {رحيم} أي فتسبب عن إمهاله لهم في كفرهم وطغيانهم مع القدرة عليهم العلم بأن تركه لمعاجلتهم ما هو إلا لرأفته ورحمته.ولما خوفهم، دل على تمام قدرته على ذلك وغيره بقوله: عاطفاً على ما تقديره: أو لم يروا إلى عجزهم عما يريدون وقسره لهم على ما لا يريدون، فيعلموا بذلك قدرته وعجزهم، فيعلموا أن عفوه عن جرائمهم إحسان منه إليهم ولطف بهم: {أولم} ولما كان حقهم المبادرة بالتوبة فلم يفعلوا، أعرض عنهم في قراءة الجماعة تخويفاً فقال تعالى: {يروا} بالياء التحتية، وقرأ حمزة والكسائي بالخطاب على نسق ما قبله، أي ينظروا بعيون الأبصار متفكرين بالبصائر، وبين بعدهم عن المعارف الإلهية بحرف الغاية فقال تعالى: {إلى ما خلق الله} أي الذي له جميع الأمر {من شيء} أي له ظل {يتفيؤا} أي تترجع إلى جهة الشاخص {ظلاله} وهو ما ستره الشاخص عن الشمس متجاوزة له {عن اليمين} وهي ما على يمين المستدير للشمال، المستقبل للجنوب، الذي هو ناحية الكعبة لمن في بلاد الشام التي هي مسكن الأنبياء عليهم السلام، وأفراد لأن الظل يكون أول ما تشرق الشمس مستقيماً إلى تلك الجهة على استواء، وجمع في قوله: {والشمائل} لأن الشمس كلما ارتفعت تحول ذلك الظل راجعاً إلى جهة ما وراء الشاخص، ولا يزال كذلك إلى أن ينتصب عند الغروب إلى جهة يساره قصداً على ضد ما كان انتصب إليه عند الشروق، فلما كان بعد انتصابه إلى جهة اليمين طالباً في تفيئه جهة اليسار، سميت تلك الجهات التي تفيأ فيها باسم ما هو طالبه تنبيهاً على ذلك، وفيه إشارة إلى قلة الجيد المستقيم وكثرة المنحرف الرديء.ولما كانت كثرة الخاضعين أدل على القهر وأهيب، جمع بالنظر إلى معنى ما في قوله: {سجداً} أي حال كونهم خضعاً {لله} أي الملك الأعلى بما فيهم من الحاجة إلى مدبرهم.ولما كان امتداد الظل قسرياً لا يمكن أحداً الانفصال عنه، قال جامعاً بالواو والنون تغليباً: {وهم داخرون} ذلاً وصغاراً، لا يمتنع شيء منهم على تصريفه، وخص الظل بالذكر لسرعة تغيره، والتغير دال على المغير.ولما حكم على الظلال بما عم أصحابها من جماد وحيوان، وكان الحيوان أشرف من الجماد، رقي الحكم إليه بخصوصه فقال تعالى: {ولله} أي الذي له الأمر كله {يسجد} أي يخضع بالانقياد للمقادير والجري تحت الأقضية، وعبر بما هو ظاهر في غير العقلاء مع شموله لهم فقال تعالى: {ما في السماوات} ولما كان المقام للمبالغة في إثبات الحكم على الطائع والعاصي، أعاد الموصول فقال تعالى: {وما في الأرض} ثم بين ذلك بقوله تعالى: {من دآبة} أي عاقلة وغير عاقلة.ولما كان المقرب قد يستهين بمن يقربه، قال مبيناً لخضوع المقربين تخصيصاً لهم وإن كان الكلام قد شملهم: {والملائكة}.ولما كان الخاضع قد يحكم بخضوعه وإن كان باطنه مخالفاً لظاهره، قال- دالاً على أن في غيرهم من يستكبر فيكون انقياده للإرادة كرهاً، وعبر عن السجودين: الموافق للأمر والإدارة طوعاً، والموافق للارداة المخالف للأمر كرهاً، بلفظ واحد، لأنه يجوز الجمع بين مفهومي المشترك والحقيقة والمجاز بلفظ: {وهم} أي الملائكة {لا يستكبرون} ثم علل خضوعهم بقوله دلالة على أنهم كغيرهم في الوقوف بين الخوف والرجاء: {يخافون ربهم} أي الموجد لهم، المدبر لأمورهم، المحسن إليهم، خوفاً مبتدئاً {من فوقهم} إشارة إلى علو الخوف عليهم وغلبته لهم، أو حال كون ربهم مع إحسانه إليهم له العلو والجبروت، فهو المخوف المرهوب، فهم عما نهوا عنه ينتهون {ويفعلون} أي بداعية عظيمة علماً منهم بما عليهم لربهم من الحق مع عدم منازع من حظ أو شهوة أو غير ذلك، ودل على أنهم مكلفون بقوله تعالى: {ما يؤمرون} فهم لرحمته لهم يرجون؛ فالآية من الاحتباك: ذكر الخوف أولاً دال على الرجاء ثانياً، وذكر الفعل ثانياً دال على الانتهاء أولاً. .تفسير الآيات (51- 53): {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)}ولما كان التوحيد أعظم المأمورات، وكان العصيان فيه أعظم العصيان، وكان سبحانه قد أكثر التخويف من عصيانه، أبلغ الأمر إلى نهايته بالإخبار بأن الملائكة تخافه، وكان الملائكة من أعظم الموحدين، كما كانوا من أعظم الساجدين، من أهل السماوات والأرضين، وكانت هذه الآيات من أعظم أدلة التوحيد، أتبعها- عطفاً على {وأنزل إليك الذكر} ليتظافر على ذلك أدلة العقل والنقل وتسليكاً بأحوال الملائكة- قوله تعالى: {وقال الله} فعبر لأجل تعظيم المقام بالاسم الأعظم الخاص الذي بنيت عليه السورة: {لا تتخذوا} أي لا تكلفوا فطركم الأولى السليمة المجبولة على معرفة أن الإله واحد إلى أن تأخذ في اعتقادها {إلهين} ويجوز أن يكون معطوفاً على ما علم من المقدمات المذكورة أول السورة إلى قوله: {وما يشعرون أيان يبعثون} من النتيجة وهي {إلهكم إله واحد} لاحتمال أن يقول متعنت: إنه لم يأمرنا بذلك وإن دلت عليه الأدلة، ويجوز وهو أقرب- أن يعطف على قوله: {وقال الذين أشركوا} تبكيتاً لهم بأنهم احتجوا بحكمه، ولم يبادروا إلى امتثال أمره.ولم كان قد فهم المراد من التثنية، وكان ربما قال المتعنت: إن المنهي عنه تكثير الأسماء، قال مؤكداً ومحققاً: {اثنين} تنبيهاً على أن الألوهية لأنه موضع لإمكان التنازع الملزوم للعجز المنافي لتلك الرتبة مطلق العدد ينافي المنيفة الشماء، وفي ذلك أيضاً- مع كون معبوداتهم كانت كثيرة- إشارة إلى أن ما يسمى آلهة- وإن زاد عدده- يرجع بالحقيقة إلى اثنين: خالق ومخلوق، ومن المعلوم لكل ذي لب أن المخلوق غير صالح للألوهية، فانحصر الأمر في الخالق، وإن لم يكن فيه الخالق كان منقسماً لا محالة، وأقل ما ينقسم إلى اثنين: وباب الاتخاذ إذا كان مفعوله نكرة، اكتفى بواحد كما تقول: اتخذت بيتاً، واتخذت زوجة- ونحو ذلك، ثم علل ذلك النهي بما اقتضاه السياق من الوحدانية فقال تعالى: {إنما هو} أي الإله المفهوم من لفظ {إلهين} الذي لا يستحق غيره أن يطلق عليه هذا الضمير إلا مجازاً، لأنه لا يطلق إطلاقاً حقيقياً إلا على ما وجدوه من ذاته {إله} أي يستحق هذا الوصف على الإطلاق.ولما كان السياق مفهماً للوحدانية من النهي عن التثنية، وكان ربما تعنت متعنت بأن المراد إثبات الإله الدال على الجنس، قال رافعاً لكل شبهة: {واحد} أي لا يمكن أن يثني بوجه ولا أن يجزأ لغناء المطلق عن كل شيء واحتياج كل شيء إليه، فكونوا ممن يسجد له طوعاً ولا تكونوا ممن لا يسجد له إلا كرهاً.ولما كان أسلوب الغيبة لا يعين الإله في المتكلم، التفت إلى أسلوب التلكم فقال تعالى: {فإياي} أي ذلك الواحد أنا وحدي لا شريك لي، فمن لم يوحدني أوقعت به بقوتي ما لا يطيقه لعجزه.ولما كانت الوحدانية مما لا يخفى على عاقل، وكانت مركوزة في كل فطرة بدليل الاضطراب عند المحن، والشدائد والفتن، وكانت الرهبة- كما مضى عن الحرالي في البقرة- خاصة بالخوف مما خالف العاصي فيه العلم، عبر بها فقال تعالى: {فارهبون} مختصاً بذلك ولا تخافوا شيئاً غيري من صنم ولا غيره، فإنه ليس لشيء من ذلك قدرة، وإن أودعته فإنه لا يتمكن من إنفاذها، فالأمر كله إليّ وحدي.ولما كان أسلوب الغيبة من الحاضر دالاً على التردي بحجاب الكبر المؤذن بشدة البطش وسرعة الانتقام وبعد المقام، رجع إليه فقال تعالى: {وله} فأعاد الضمير على الله الاسم العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى {ما في السَّماوات}.ولما كان الأمر قد تأكد وتأطد، وظهر المراد منه غاية الظهور، لم يحتج إلى تأكيده بإعاداة النافي، فقال تعالى: {والأرض} أي مما تعبدونه وغيره، فكيف يتصور أن يكون شيء من ذلك إلهاً وهو ملكه، مع كونه محتاجاً إلى الزمان والمكان وغيرهما {وله الدين} أي الخضوع والتذلل من كل ما فيهما ومن فيهما بالطوع والكره، بإنفاذ القضاء والقدر، بالصحة والسقم، والغنى والفقر، والحياة والموت، والإيجاد والإعدام، والإذلال والإعزاز، والإقبال والإعراض- كما بين آنفاً، وله الدينونة بالمجازاة {واصباً} أي دائماً ثابتاً عاماً لا كالملوك الذين تنقطع ممالكهم مع خصوصها، والمعبودات التي تنقطع عبادتها في وقت من الأوقات فتصير كاسدة بعد أن كانت رابحة وإن طال المدى، مع خصوصها بناس دون غيرهم، ولا يخلو يوم من الأيام لملك غيره من جري أمور على غير مراده وإن عظم سلطانه، وعلا شأنه، وكثرت أعوانه، فكيف يتصور من له أدنى بصر أن يكون غيره إلهاً، وقد تقدم في {إن ربي على صراط مستقيم} [هود: 56] في هود ما ينفع استحضاره هنا.ولما تقرر هذا الدليل على هذه الصفة، وكان من مفهومات الدين الجزاء الناظر إلى الأفعال الواقية مما يضر، تسبب عنه الإنكار الشديد على من يلتفت بشيء من أفعاله إلى غيره بعد علمه بأنه دائم لا يزول، وأن كل ما سواه زائل، فقال معبراً بالتقوى التي هي نتيجة الرهبة: {أفغير الله} أي الذي له العظمة كلها {تتقون} وأتبع ذلك ما يوجب تعظيم الإنكار عليهم، فقال مبيناً أنه لا ينبغي أن يتعلق خوف ولا رجاء إلا به: {وما بكم} أي التبس بكم أيها الناس عامة مؤمنكم وكافركم {من نعمة} أي جليلة أو حقيرة {فمن الله} أي المحيط بكل شيء وحده لا من غيره.ولما كان إخلاصهم له- مع ادعائهم ألوهية غيره- أمراً مستبعداً، عبر بأداة التراخي والبعد في قوله تعالى: {ثم إذا مسكم} أي أدنى مس {الضر} بزوال نعمة مما أنعم به عليكم {فإليه} أي وحده {تجأرون} أي تعرفون أصواتكم بالاستعانة لما ركز في فطركم الأولية السليمة من أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه..تفسير الآيات (54- 58): {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)}ولما كان الرجوع إلى الإشراك بعد الإخلاص مستبعداً أيضاً لاستهجانهم سرعة الاستحالة، قال تعالى: {ثم إذا كشف} سبحانه عما تشركون {الضر} أي الذي مسكم {عنكم} ونبه على مسارعة الإنسان في الكفران فقال تعالى: {إذا فريق} أي جماعة هم أهل فرقة وضلال {منكم} أيها العباد! {بربهم} الذي تفرد بالإنعام عليهم {يشركون} أي يوقعون الإشراك به بعبادة غيره تغيراً منهم عما كانوا عليه عند الاستغاثة به في الشدة، فكان منطبقاً عليهم ما ضربوا المثل بكراهته بقولهم:وهذا أجهل الجهل.ولما كان هذا ملزوماً بجحد النعمة، وكان من شأن العاقل البصير بالأمور- كما يدعونه لأنفسهم- أن يغفل عن شيء من لوازم ما يقدم عليه، قال: {ليكفروا} أي يوقعوا التغطية لأدلة التوحيد التي دلتهم عليها غرائز عقولهم {بما ءاتينهم} أي من النعمة، تنبيهاً على أنهم ما أقدموا على ذلك الشرك إلا لهذا الغرض إحلالاً لهم محل العقلاء البصراء الذين يزعمون أنهم أعلاهم، ورفعاً لهم عن أحوال من يقدم على ما لا يعلم عاقبته، ولا خزي أعظم من هذا، لأنه أنتج أن الجنون خير من عقل يكون هذا مآله، فهو من باب التهكم {فتمتعوا} أي فتسبب عن هذا أن يُقبل على هذا الفريق إقبال عالم قادر عليه قائلاً: تمتعوا {فسوف} أي فإن تمتعكم على هذا الحال سبب لأن يقال لكم تهديداً: سوف {تعلمون} غب تمتعكم، فهو إقبال الغضب والتهديد بسوء المنقلب، وحذف المتهدد به أبلغ وأهول لذهاب النفس في تعيينه كل مذهب.ولما هددهم بإشراكهم المستلزم لكفر النعمة، أتبعه عجباً آخر من أمرهم فقال عاطفاً على قوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم}: {ويجعلون} أي على سبيل التكرير {لما لا يعلمون} مما يعبدونه من الأصنام وغيرها لكونه في حيز العدم في نفسه وعدماً محضاً بما وصفوه به كما قال تعالى: {أم تنبئونه بما لا يعلم} [الرعد: 33] {نصيباً مما رزقناهم} بما لنا من العظمة، من الحرث والأنعام وغير ذلك، تقرباً إليها كما مضى شرحه في الأنعام، ولك أن تعطفه- وهو أقرب- على {يشركون} فيكون داخلاً في حيز إذا أي فاجأوا مقابلة نعمته في الإنجاء بالإشراك والتقرب برزقه إلى ما الجهل به خير من العلم به، لأنه عدم لأنه لا قدرة له ولا نفع في المقام الذي أقاموه فيه؛ ثم التفت إليهم التفاتاً مؤذناً بما يستحق على هذا الفعل من الغضب فقال تعالى: {تالله} أي الملك الأعظم {لتسئلن} يوم الجمع {عما كنتم} أي كوناً هو في جبلاتكم {تفترون} أي تتعمدون في الدنيا من هذا الكذب، سؤال توبيخ، وهو الذي لا جواب لصاحبه إلا بما فيه فضيحته.ولما بين سفههم في صرفهم مما آتاهم إلى ما هو في عداد العدم الذي لا يعلم، بين لهم سفهاً هو أعظم من ذلك بجعلهم لمالك الملك وملكه أحقر ما يعدونه مما أوجده لهم، لافتقارهم إليه وغناه عنه على وجه التوالد المستحيل عليه مع كراهته لأنفسهم، فصار ذلك أعجب العجب، فقال تعالى: {يجعلون لله} أي الذي لا معلوم على الحقيقة سواه لاستجماعه لصفات الجلال والإكرام. ولما كان المراد تقريعهم، وكانت الأنوثة ربما أطلقت على كرائم الأشجار، نص على المراد بقوله: {البنات} فلا أعجب منهم حيث يجعلون الوجود للمعدوم المجهول، ويجعلون العدم للموجود المعلوم؛ ثم نزه نفسه عن ذلك معجباً من وقوعه من عاقل بقوله تعالى: {سبحانه}.ولما ذكر ما جعلوا له مع الغنى المطلق، بين ما نسبوا لأنفسهم مع لزوم الحاجة والضعف فقال: {ولهم ما يشتهون} من البنين، وذلك في جملة اسمية مدلولها الثبات، ليكون منادياً عليهم بالفضيحة، لأنهم لا يبقون لأبنائهم ولا يبقى أبناؤهم لهم، وقد يكونون أعدى أعدائهم؛ ثم بين حالهم إذا حصل لهم نوع ما جعلوه له سبحانه فقال تعالى: {وإذا} أي جعلوا كذا والحال أنه إذا {بشر أحدهم} ولما تعين وزال المحذور، جمع بين الخساستين كما بين آخر الصافات فقال تعالى: {بالأنثى} أي قابل هذه البشرى التي تستحق السرور بحصول نسمة تكون سبباً لزيادة هذا النوع، وقد تكون سبب سعادته، دالة على عظمة الله- بضد ما تستحق مما لا يفيده شيئاً بأن {ظل وجهه} وكنى عن العبوس والتكدر والغبرة بما يفوز فيه من الغيظ بقوله تعالى: {مسوداً} أي من الغم والكراهة، ولعله اختير لفظ {ظل} الذي معناه العمل نهاراً وإن كان المراد العموم في النهار وغيره دلالة على شهرة هذا الوصف شهرة ما يشاهد نهاراً {وهو كظيم} ممتلئ غيظاً على المرأة ولا ذنب لها بوجه، والبشارة في أصل اللغة: الخبر الذي يغير البشرة من حزن أو سرور، ثم خص في عرف اللغة بالسرور، ولا تكون إلا بالخبر الأول، ولعله عبر عنه بهذا اللفظ تنبيهاً على تعكيسهم للأمور في جعلهم وسرورهم وحزنهم وغير ذلك من أمرهم.
|